السبت، 5 نوفمبر 2011

الدراما التاريخية .. التاريخ مزيفاً!


عندما يتم التلاعب عمداً بحقائق الشخصيات التاريخية الكبرى (المقصود: كبيرة بأثرها،سواء أكان أثرا سلبيا أم إيجابيا) فإن هذا ليس مجرد تلاعب بتاريخ فرد،بل هو تلاعب بتاريخ أمة،وبرؤية أمة،وبمنهج أمة،ومن ثم،بمستقبل أمة،أمة لا تزال تعيش لحظة محاولة الانعتاق من الانحطاط.
الدراما التاريخية .. التاريخ مزيفاً!
18/08/2011
جريدة الرياض
محمد بن علي المحمود: على الرغم من إدراكنا،بل ومن تأكيدنا أن للفن سياقه أو خطابه الذي يجعله مغايرا للخطاب العلمي المباشر،إلا أن روح الرسالة التي تصل من خلال الفن لا يجوز أن تكون مختلفة إلى درجة التضاد مع ما يتقرر في السياق العلمي. روح الرسالة التي يطرحها الفن لابد أن تكون متوافقة مع الخطوط العريضة للرسالة التي يُصرح بها العلم في أي ميدان من ميادين المعرفة،وإلا كان الفن مُزَيَّفاً ومُزَيِّفاً،ومن ثمَّ يصبح ممارسة سلبية معادية للإنسان،ممارسة لابد أن تضر بمسيرة تطور الإنسان،ذلك التطور الذي لا يمكن أن يتحقق واقعيا إلا من خلال عميلة مستمرة/تراكمية من وعي الذات بالذات.
إذن؛ كون الفن له طبيعة مراوغة في إيصال ما يريد إيصاله،كونه له طبيعة معقدة نتيجة تعدد وتنوع واشتباك عناصر الرسالة فيه،كونه له طبيعة إيحائية تجعل من مساءلة الفكرة فيه أمرا عسيرا،كونه يمارس تأثيرا غير مباشر على تلوين الحقائق العلمية،كلّ ذلك لا يعني أنه يجوز له أن يخون جوهر الرسالة،فضلا عن أن يمارس عملية تزييف علنية شاملة لموضوع ما،عملية تقوم على التضحية بالعلم وبالفن لمصالح مادية فردية،أو لمصالح إيديولوجية ضيقة لاتخدم إلا طبقة المنتفعين في زمن الاحتراب.
اليوم،نرى،وبوضوح،كيف تخون الدراما التاريخية العربية - وبأبشع صور الخيانة - العلم والفن،نرى كيف تقوم هذه الدراما،وعن قصد،بدور واضح في تزييف الوعي الراهن من خلال تزييف الوعي بالتاريخ. فهذه الدراما التاريخية،ورغم الضعف الفني الفاضح الذي يمكن ملاحظته من خلال مقاربة كل عناصر العملية الفنية (يتضح هذا الضعف بسهولة من خلال مقارنة هذه الأعمال الهزيلة بأي عمل مماثل أنتجه الغرب ولو قبل ثلاثة أو أربعة عقود)،نجدها تمارس تمرير التزييف من خلال الفن،بل نجد أنها تنسى الفن أو تذهل عنه،فتتحدث بمقاطع نصوصية مُوجّهة لم تتحدث بها الشخصيات أصلًا،بل الأشد إيلاما أنك تجد كثيرا من الشخصيات الفنية في هذه الدراما تتحدث بما هو نقيض ما تحدثت به حقيقة تلك الشخصيات التاريخية في ذلك التاريخ البعيد.
عندما تشاهد هذه الدراما الهزيلة (ولكنها مؤثرة رغم ذلك،لأن المتلقي الذي يستهلكها بشكل سلبي قد تم اغتيال ذائقته الفنية من جهة،وتزييف وعيه التاريخي من جهة أخرى)،وتسمع ما يجري على ألسنة شخصياتها،تتخيل أنك تستمع إلى موعظة ساذجة يُلقيها واعظ تقليدي على مجموعة من التلاميذ البُلداء البؤساء المختصمين حول توافه الأمور،لمجرد أن يخفف من حدة الخصام!.
إن الخصام المتجذر في عمق التاريخ لايتم تجاوزه بطمسه،وتقديم تصور موهوم مغاير،حتى ولو كان تصورا جميلا تجاوز الخصام التاريخي لا يتم إلا بفتح الباب على مصراعيه للبحث الحر الذي لا يقوم على مسبقات حاكمة لعملية البحث من أي نوع،بل هو بحث حُر،بحيث يتغيا الحقيقة المجردة في صورتها النسبية الممكنة تاريخياً.
إن تجاوز الخصام التاريخي الذي يصنع صراعات اليوم،لا يكون إلا بأن تتقارب التصورات حول ما وقع (بكل عناصر الواقعة التاريخية)،نتيجة البحث المتجرد لحقائق العلم،وليس البحث المُوجّه سلفا،والذي يُراد منه دحض حجج الخصوم في الراهن على حساب حقائق التاريخ.
ما جرى في التاريخ الغابر (تاريخنا خاصة) ليس مسألة عابرة،ولا إشكالا عديم الأثر،بل هو صانع وعي الجماهير (= الوعي الثقافي العام) على امتداد العالم العربي. ومن هنا ، فأي تزييف،أو تزوير،أو حتى تلوين لحقائق هذا التاريخ - الحقائق التي صنعتنا ولا تزال تصنعنا - يعني بالضرورة تدميراً لوعينا بأنفسنا،وقتلًا لكل إمكانات النهوض التي لا يمكن أن تبدأ إلا بالانخراط اللامتحفظ في ثقافة العصر الحديث.
عندما يتم التلاعب عمداً بحقائق الشخصيات التاريخية الكبرى (المقصود: كبيرة بأثرها،سواء أكان أثرا سلبيا أم إيجابيا) فإن هذا ليس مجرد تلاعب بتاريخ فرد،بل هو تلاعب بتاريخ أمة،وبرؤية أمة،وبمنهج أمة،ومن ثم،بمستقبل أمة،أمة لا تزال تعيش لحظة محاولة الانعتاق من الانحطاط. إنه ليس تلاعبا بماضٍ مضى وانقضى،بقدر ما هو - في عمقه اللامرئي - تلاعب بمنظومة الرؤى التي تصنع مكونات الحاضر،الحاضر الذي لا يزال لدينا ماضويا إلى حد بعيد.
الفرد المؤثر ليس تاريخه ملكاً لذويه،ولا حتى للمتعاطفين معه،ما دام أثره تجاوز نطاقه الفردي أو العائلي الخاص. الفرد المؤثر هو ملك للتاريخ (التاريخ كوقائع والتاريخ كعلم) الذي لا يزال يصنع الحاضر،خاصة في مجتمعات التقليد،المجتمعات التي لا تزال تنظر إلى الوجود كله،وإلى موضعها الحقيقي أو الافتراضي في هذا الوجود،من خلال ثقب تاريخي محدود.
فمثلا،نجد التزييف واضحاً وفاضحاً،عندما تقوم هذا الدراما التاريخية،ونتيجة خضوعها لدوافع قُطرية مناطقية،أو إيديولوجية عروبوية،بتحوير التاريخ الفعلي لشخصية مؤثرة حكمت لمدة أربعة عقود،أربعة عقود احتلتها في فترة التأسيس،نصفها حكمٌ بالمشاركة،ونصفها الآخر حكمٌ بالانفراد،وتحاول هذه الدراما إلباس هذه الشخصية لباس ورع وتجرد لم يكن لها من قريب أو بعيد،فضلا عن محاولتها التبرير لما قامت به من تفتيت الوحدة،وإذكاء الصراع الدموي بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد،وذلك بطمس الدوافع الحقيقية التي دلت عليها مُجمل الوقائع،كما دعمتها كل القرائن التاريخية،ومن ثم استبدال هذه الدوافع الحقيقية بدوافع مفترضة يرفضها السياق التاريخي للشخصية ذاتها،وكل ذلك في محاولة يائسة لإجراء عملية تجميل فاشلة تُرضي عشاق الوهم الجميل!.
التاريخ بمجمل وقائعه التي يستحيل فيها الكذب،وبكل ما يؤديه الاتساق المنطقي لقرائنه من يقين أو شبه يقين،وبكل المقولات المتواترة التي تتسق منطقياً مع وقائع الأحداث التي يعترف الجميع بوقوعها،كل ذلك يؤكد أن هذه الشخصية لم يكن الهَمّ العام يُمثّل لها أدنى درجة من درجات القلق،بل كان لها هدف أنانيّ خاص،هدف سعت إليه على بحر من الدماء والأشلاء. بل،والأشد من ذلك أنها - وفي سياق سعيها الميكافيللي لهدفها الخاص - أسست لرؤى وتصورات لا تزال فاعلة إلى اليوم،حيث إن مظاهر الطغيان والاستبداد الماثلة اليوم في العالم العربي ليست إلا امتدادا طبيعيا لها،منها يستمد هذا الظلم مشروعية وجوده في الوعي الجماهيري العام،فضلا عن الوعي التسلطي الاستبدادي الخاص المنتفع من رواج مثل هذه التصورات الآتية إلينا من ذلك الماضي السحيق!.
عندما عجز صناع الدراما التاريخية التزييفية عن قلب وقائع التاريخ،لأن رسوخها قائم على قوة التواتر الذي يصل في بعضها إلى إجماع المؤرخين،عمدوا إلى التحوير - تحوير إلى درجة التزوير - في حقيقة الدوافع الذاتية (= النوايا) التي كانت وراء تلك الوقائع الدامية في تاريخنا المجيد.
تزييف الدوافع ولو بما يناقض كل القرائن،لا يحتاج عند مزيفي التاريخ في الدراما التاريخية العربية إلى أكثر من جُملة عابرة (جملة مكذوبة لم توجد أصلا في أي مرجع تاريخي،وإنما يجري استغلال اتساع الفضاء الفني لها ولأمثالها) تنطق بها الشخصية في سياق الحدث،فيتحول المجرم الكبير الذي عطّل مسيرة تموضع القيم والمثل العليا في الواقع،والذي يُفترض أن يكون مُدانا فنيا،إلى شخصية مرموقة،إلى مجرد مجتهد نبيل أخطأ الطريق!.
في فترة تاريخية ما،كانت مبادئ الإسلام العليا المتمثلة في العدالة واحترام حقوق الإنسان والمساواة ومكافحة كل صور الفساد،تحاول أن تتجذر في الواقع،أن تحيا في حياة الناس،كما كانت تحاول التجذر في النظام الإداري/السياسي الذي يحكم هذه الحياة. لكن،كانت هناك شخصيات مؤثرة قطعت الطريق على هذه المحاولة في بداياتها،شخصيات أسست لكل ما هو مضاد لهذه المثل والقيم العليا،شخصيات أسست للاستبداد والظلم وقهر الإنسان،شخصيات أعادت العنصريات القبلية بكل زخمها،بل وأسست لعدم المساواة بصورة علنية فاضحة (راجع تاريخ اضطهاد الموالي)،شخصيات غيّبت الإنسان،وعسكرت كل القوى لصالح مجموعة أفراد،شخصيات شخصنت الأنظمة،فأصبح النظام أداة في يد المستبد الطاغية (من أصغر وحدة إدارية إلى أكبر وحدة)،وليس سدا منيعا يدفع نزوات الاستبداد ... إلخ.
إن كل هذه السلبيات التي تمت صناعتها في الماضي،وإبان مرحلة التأسيس الأولى،هي ذاتها السلبيات التي يُعاني منها العالم العربي اليوم،هي السلبيات التي يحاول العالم العربي الخروج من نفقها المظلم،ولكنه لا يزال - للأسف - يعيد إنتاجها باستمرار،لأنه إلى الآن لم يتجرأ على فحص مرحلة التأسيس،لا يزال يجبن عن محاسبة صُنّاعها في الماضي،بل إنه (وهنا المفارقة) يُمجّد صنّاعها في الماضي،في الوقت الذي يلعن فيه القائمين على تفعيلها في واقعه المعاش،أقصد: يلعن صغار الطغاة والمستبدين،يلعن التلاميذ النجباء!،بينما يُقدّس - في الوقت نفسه - أساتذتهم الكبار،كبار الطغاة الذين وضعوا لهم النظرية،وبعض صور التطبيق،لمجرد أنهم (= الأساتذة الكبار) ينتمون إلى زمن الوهم الجميل!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق